يمثل فن المنمنمات ما يعرف اليوم بفن الرسوم الإيضاحية في كتب العلوم والآداب، ولهذا فالمنمنمة والتي هي رسوم مصغرة تحلّي الصفحة وتضيء النص المكتوب وتحاول إيضاح ما التبس منه بغية الوصول إلى هدفه وغايته، فللمنمنمة جانبها التفسيري للنص والإيضاحي لما ورد فيه من معلومات،
ولها جانبها الفني أيضا لأنها تقدم لوحة فنية تحمل المفاهيم الجمالية والصياغات التعبيرية للفكرة، فهي تجمل الصفحة المخطوطة وتوفر للقارئ متعة بصرية تساعده في استيعاب المعلومات وتدفع به إلى التواصل مع النص في رغبة عالية، ذلك أنها تجمع جمال الرسوم الملونة وبراعة الخطوط وحُسن تنسيقها مع الرسوم من خلال صياغة مبتكرة.
إن الأهمية المتزايدة لفن الرسوم الصغيرة عند العرب والمسلمين قد رجعت إلى الارتباط الوثيق بتوسع الحضارة الإسلامية وتعدد المؤلفات والكتب المترجمة واختلاف موضوعاتها وتنافس النساخ على تحلية المخطوطات وتجميلها، كل ذلك ضمن إطار ما حمله الدين الإسلامي من نظرة جديدة وثورية تتلخص بالدعوة إلى الوحدانية ورفضه الشرك بحيث أعيد تنظيم الحياة في المجتمع الإسلامي وفقا لهذا المفهوم الجديد.
لذا قدم الفنانون مفهوما جماليا يرتبط بالوحدانية ويرد كل أشكال الجمال الظاهر إلى مفهوم جمالي واحد فالجمال هنا هو الجمال الأزلي، الذي يكمن خلف كل جمال مرئي وظاهر، وحتى يتمكن الفنان المسلم من تجسيد ذلك بشكل عملي، ابتكر صيغة (الخط اللامتناهي الحركة) الأرابيسك الذي جعل الأشكال ترجع إلى مصدر واحد وكذلك الزخارف لأن حركة الخط هي التي توجد الأشكال، وهي التي تحكم بكل ما هو مرسوم، أو مزخرف أو مصور، وان المصدر الرئيسي هو المطلق اللامتناهي في الحركة، الذي يرد كل شيء إليه، وهكذا رسم المزخرفون زخارفهم بحركة لا متناهية وصوّر الفنانون المنمنمات بتدرجات في حركة الخط اللين، وحركوا ألوانهم عن طريق مفاهيم الإضاءة والتنسيق بين الخط واللون، وتوصلوا إلى صياغات رمزية للألوان تعطينا التدرج وتمنح التأليف بمجمله التناغم والحيوية.
ومن المعروف إن فن المنمنمات الإسلامي ينقسم إلى مدارس واتجاهات فنية متنوعة تبعا لطبيعة الصياغة الفنية وتوظيف عنصر اللون وتوزيع الكتل والجسم على سطح الصفحة بالإضافة إلى أثر المكان وموجوداته على رؤية الفنان وتعاطيه مع عناصر الطبيعة المحيطة به، فهناك المدرسة الفارسية والمدرسة المغولية والتركية بالإضافة إلى المدرسة العربية التي يصطلح على تسميتها من قبل نقاد الفن بمدرسة بغداد والتي تضم المدن التالية: بغداد والموصل، دمشق، القاهرة، قرطبة، غرناطة.
تأثرت مدرسة بغداد بداية بالفن البيزنطي والفارسي لكن التطور الزمني جعلها تستقل عن هذه التأثيرات وتقدم الأشكال المبتكرة والتي بدت واضحة في التصوير السياسي بشكل خاص، وقد رسمت المنمنمات في هذه المرحلة بدون إطار يحددها ويفصلها عن المخطوط من الكلام.
ومن بين مميزاتها الفنية، ان الوجوه ذات ملامح دقيقة ومسلوبة تتخذ شكلا دائرياً، واللحى سوداء داكنة أو بيضاء، والعيون كبيرة ذات جفون بارزة تذكر بملامح الوجوه في المنحوتات السومرية والآشورية بينما تكون الحواجب مستدقة ومتقنة تمسك بخط الأنف الطويل، ثم تغطى الرؤوس بالعمائم المزركشة، أما الملابس فتكون فضفاضة مزينة بالزخارف والأشكال المرسومة بخطوط لينة متحركة، كذلك تميل الألوان إلى البساطة والدقة والبعد عن التكلف والصنعة.
ومن أهم الكتب التي احتوت على الرسوم من هذه المدرسة مخطوط (كليلة ودمنة) وكتاب (مختار الحكم ومحاسن الكلام) و(مقامات الحريري) وكتاب (الأغاني).
نلاحظ في مخطوط كليلة ودمنة الذي دون في غضون عام 1200م انه حافل برسوم الحيوانات والتي صيغت وفق المفاهيم التي ذكرناها، فالفنان قد اهتم بالخطوط اللينة المعبرة وقدم الإيقاع الحركي لهذه الخطوط وقد احتوت كل المنمنمات على الصياغة الفنية التي تجعلنا نردها إلى (الأرابيسك) فكل تكوين يتصل بالآخر ليكون تأليفا متناسقا.
أما كتاب الأغاني الذي رُسم في غضون عام 1317 في شمال العراق والذي يتميز بغنى تفاصيله، فنجد ان المنمنمة المرسومة فيه تتخذ هيئة قطعة قماش مزخرفة، فمثلا نجد إحدى المنمنمات تصور الحاكم متوضعا في الوسط يحيط به عدد من وزرائه وهذه الصورة تعبر تماما عن الجو الذي قدمه كتاب الأغاني، فهذا الفنان استوعب أولا مناخ العمل وأضاف إليه عدة أمور هامة خصوصا في عملية توزيع العناصر على المساحة وتقديم الأشخاص والألبسة المزركشة، وغير ذلك من التفاصيل الغنية. ورغم الاختلاف الظاهر بين المخطوطتين (كليلة ودمنة) والأغاني إلا أننا نكتشف وحدة الهدف الذي توصلنا إليه، إذ ان القيم الحركية للخطوط الأولى قد استعاض عنها الفنان الآخر بوحدة إيقاعية للمساحات الملونة، إذ تتحول كل مساحة لونية لشخص من الأشخاص إلى مجردة لونية تعطي إيقاعا خاصا بها، وأصبح توزيع المساحات وإيقاعاتها هو الأساس في إعطاء العمل الفني الغنى الضروري للوحة، وهكذا اخذ اللون قيمة رمزية ليعيد التفاصيل من خلال حركة الخط وإيقاعه واتصاله مع المساحات الملونة.
من هنا تتحقق غاية الفنان في خلق عمل فني معبر عن الموضوع بصياغة فنية مبتكرة تترابط مع الصياغة الموحدة مستفيدة بشكل جيد من الحركة اللامتناهية في الأرابيسك، الأمر الذي جعل من خصائص مدرسة بغداد انها ذات طابع ريادي إذ لم تنحسر مهمتها في التجديد الشكلي، بل كانت عاملا محرضا للوصول إلى عمل متكامل توظف الرسومات فيه كجزء حيوي من بنية النص ذاته، بالإضافة إلى تأكيدها على عنصر الهوية الذي يمنح العمل خصوصيته ويعيد به بعدا فنيا يحمل طابع الفرادة وسط مدارس عدة كانت تجاهد للوصول إلى صياغة فنية تمنحها ذات الخصوصية.
ابراهيم داود